الحمد لله والصلاة والسلام على رسو الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه
أما بعد
فنبدأ في هذه الحلقة بالحديث عن صفات الله تعالى التي نفاها السبكي في كتابه ونفاها الكوثري في تتمته , وتكلمت في المقال السابق عن نفي الأشاعرة لصفات الأفعال عن الله تعالى وأنهم ورثوا ذلك من الجعد بن درهم إمام المعطلة
وسنتكلم في هذا المقال عن صفة العلو لله تعالى وبعده عن صفة الكلام فبهما نبدأ إن شاء الله دون بقية الصفات لأنهما أكثر صفتين كانت تدور رحى الحرب بين أهل السنة والجهمية حولهما .. وسأبين أن الأشاعرة مشوا فيهما على سنن الجهمية
ربي يسر وأعن برحمتك ياكريم
أكثر صفة احترب فيها الأشعريان مع ابن القيم رحمه الله هي صفة العلو وذكر ابن القيم حسب ما ورد في كتاب السبكي أدلة متكاثرة جدا جدا .. ولكن كلها كان مآلها النكير والجحود
ولكن سنرد على أبرز شبههما في ذلك
فأولا النصوص الشرعية المتكاثرة على إثبات هذه الصفة في عدد من الأوجه مثل التصريح به "وهو القاهر فوق عباده" والاستواء "الرحمن على العرش استوى" والنزول الذي ورد في الحديث "ينزل ربنا" , وكذلك عروج الملائكة إليه "تعرج الملائكة والروح إليه" , ونزولهم من عنده "نزل به الروح الأمين" ,
ثانيا : بالدليل العقلي قال الإمام أحمد رحمه الله : فقل له : حين خلق الشيء خلقه في نفسه أو خارجا من نفسه فإنه يصير إلى ثلاثة أقوال لا بد له من واحد منها :
1- إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه كفر حين زعم أن الجن والإنس والشياطين في نفسه .
2- وإن قال : خلقهم خارجا من نفسه ثم دخل فيهم ,كان هذا كفرا أيضا حين زعم أنه دخل في مكان وحش قذر رديء .
3- وإن قال : خلقهم خارجا من نفسه ثم لم يدخل فيهم , رجع عن قوله أجمع وهو قول أهل السنة .اهـ (1)
فالمباينة والمداخلة صفتان متناقضتان يلزم من إثبات إحداهما نفي الأخرى , ولا يوجد شيء له ماهية إلا ويتحتم اتصافه بإحدى هاتين الصفتين , والأشاعرة راغوا في هذه القضية وقالوا : بل ننفي عنه الدخول والخروج ,
قال الغزالي : أن الله تعالى مقدس عن المكان ومنزه عن الأقطار والجهات وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه ولا هو متصل به ولا هو منفصل عنه، قد حير عقول أقوام حتى أنكروه إذ لم يطيقوا سماعه ومعرفته !!.اهـ (2)
قال الكوثري في حاشيته على السيف الصقيل : وهم يقولون : إنه لا يقال : إن الله في داخل العالم , كما لا يقال : إنه في خارج العالم , ولا أنه مستقر على العرش , لأن ذلك لم يرد في الكتاب والسنة (!!!) .اهـ (3)
قال الرازي : أنا ندعي وجود موجود غير حال في العالم ولا مباين عنه في شيء من الجهات الست .اه (4)
فيقال لهم : هذا تشبيه له تعالى بالممتنعات , والجهمية القائلون بالحلول والاتحاد أفضل منكم من هذا الوجه لأنهم أثبتوا شيئا موجودا وأنتم أثبتم ممتنعا , وإثبات موجود ناقص أفضل من إثبات ممتنع
قال شيخ الإسلام رحمه الله : فهذه القسمة حاصرة كما ذكره أحمد أنه لا بدّ من قول من هذه الأقوال الثلاثة , فإن جعلوه محلا للمخلوقات فقد جعلوا إبليس والشياطين والنجاسات مما يبعد عن الله ملعون مطرود جعلوه في جوف الله وذلك كفر , وإن جعلوه حالّا فيها فقد جعلوه حالّا في كل مكان يتنزه عن مقاربته وملاصقته والقرب منه وذلك أيضا كفر كما تقدم .
وإذا انتفى هذان القسمان بقي القسم الثالث هو أنه سبحانه وتعالى خلق الخلق خارجا عن نفسه ثم لم يدخل فيهم , وهو الحق الذي عليه أهل السنة والجماعة وعموم الخلائق من كل ذي فطرة سليمة .اهـ (5)
فهذا هو الدليل العقلي على إثبات العلو لله تعالى
وأما الدليل الفطري ,
فعلو الله على خلقه ضرورة فطرية يجدها الإنسان في قلبه
فقد قال شيخ الإسلام رحمه الله : أن الناس مع اختلاف عقائدهم وأديانهم يشيرون إلى السماء عند الدعاء لله تعالى والرغبة إليه , وكلما عظمت رغبتهم واشتد إلحاحهم قوي رفعهم وإشارتهم , ولهذا لما كان دعاء الاستسقاء فيه من الرغبة والإلحاح ما ليس في غيره كان رفع النبي صلى الله عليه و سلم وإشارته فيه أعظم منه في غيره , وهذا يفعلونه إذا دعوا الله مخلصين له الدين عندما يكونون مضطرين إلى الله عند الرغبة والرهبة مثل ركوب البحر وغيره , وفي تلك الحال يكونون قاصدين الله قصدا قويا , بل لا يقصدون غيره ويقرنون بقصد قلوبهم وتوجهها إشارتهم بعيونهم ووجوههم وأيديهم إلى فوق , ومعلوم أن الإشارة تتبع قصد المشير وإرادته , فإذا لم يكونوا قاصدين إلا الله ولا مريدين إلا إياه لم تكن الإشارة إلا إلى ما قصدوه وسألوه , فانه في تلك الحال لا يكون في قلوبهم إلا شيئان المسؤول والمسؤول منه , ومعلوم أن هذه الإشارة باليد وغيرها ليست إلى الشيء المسؤول المطلوب من الله , ولا يخطر بقلوبهم أن هذه الإشارة إلى ذلك , ولا ادعاه المنازع في ذلك في أكثر الأوقات لا يكون فوق , فلم يبق ما تكون الإشارة إليه إلا المدعو المقصود , وإلا كانت الإشارة إلى ما لم يقصده الداعي ولم يشعر به وهذا ممتنع وهذا واضح لمن تدبره ... الوجه السابع أن هذا الرفع يستدل به من وجوه أحدها : ان العبد الباقي على فطرته يجد في قلبه أمرا ضروريا إذا دعا الله دعاء المضطر أنه يقصد بقلبه الله الذي هو عال وهو فوق , الثاني : أنه يجد حركة عينه ويديه بالإشارة إلى فوق تتبع إشارة قلبه إلى فوق وهو يجد ذلك أيضا ضرورة , الثالث : ان الأمم المختلفة متفقة على ذلك من غير مواطأة , الرابع : انهم يقولون بألسنتهم : أنا نرفع أيدينا إلى الله , ويخبرون عن أنفسهم أنهم يجدون في قلوبهم اضطرارا إلى قصد العلو فالحجة تارة بما يجده الإنسان من العلم الضروري وتارة بما يدل على العلم الضروري في حق الناس , وتارة بأن الناس لا يتفقون على ضلالة , فإنه إذا كان إجماع المسلمين وحدهم لا يكون إلا حقا فإجماع جميع الخلق الذين منهم المسلمون أولى أن لا يكون إلا حقا .اهـ (6)
ودليل الفطرة ثاب إليه أبو المعالي الجويني لما ذُكِّرَ به , قال الذهبي : قَالَ مُحَمَّدُ بنُ طَاهِرٍ: حضَر المُحَدِّثُ أَبُو جعفر الهمذاني مَجْلِسَ وَعظِ أَبِي المَعَالِي، فَقَالَ: كَانَ اللهُ وَلاَ عرش، وَهُوَ الآنَ عَلَى مَا كَانَ عليه. فقال أبو جَعْفَر: أَخْبِرْنَا يَا أَسْتَاذ عَنْ هَذِهِ الضَّرُوْرَة الَّتِي نَجدُهَا، مَا قَالَ عَارِفٌ قَطُّ: يَا أَللهُ! إلَّا وَجَد مِنْ قَلْبِهِ ضَرُوْرَة تَطلب العُلُوِّ لاَ يَلتَفِتُ يَمنَةً وَلاَ يَسرَةً، فَكَيْفَ نَدفَعُ هَذِهِ الضَّرُوْرَة عَنْ أَنْفُسنَا، أَوْ قَالَ: فَهَلْ عِنْدَك دوَاءٌ لدفعِ هَذِهِ الضَّرُوْرَة الَّتِي نَجدُهَا? فَقَالَ: يَا حَبِيْبِي! مَا ثمَّ إلَّا الحَيْرَة !. وَلطم عَلَى رَأْسه، وَنَزَلَ، وَبَقِيَ وَقت عَجِيْب، وَقَالَ فِيمَا بَعْد: حيَّرنِي الهَمَذَانِيّ.اهـ (7)
وقد انبعث أشقى الأشعرية المدعو سعيد فودة لتضعيف هذه القصة ببحث على موقع الأصلين –أظن- ولكن هذا الرجل لا أحبه كثيرا ولا أحب القراءة له لأنه معروف بالكذب والمجازفة ثم إنه يتكلم كثيرا ولا يقول شيئا وهمه الوحيد في كلامه : انظروا إلي فعندي ما ليس عند غيري !! , ثانيا : ما المانع من متابعة الجويني للأسلافه ؟ (ما معنى ذلك؟!) , في خاتمة المقال سأذكر من الأخبار ما تضيق به خواطر الجهمية إن شاء الله
فهذه النصوص والأدلة العقلية والفطرية تتعاضد في إثبات هذه القضية والسني تكفيه ظواهر الوحيين عما سواهما , ولكن الأشعري لما ساء ظنه بالوحيين وجعل ظواهرهما كفرا ثم حيدهما ؛ عوقب بفساد المشرب
فإنه من عصى الله بشيء عوقب بفساده , والأشعرية لما عصوا الله بترك منهل الوحيين , عوقبوا بالنهل من زبالات الفلاسفة
ومن الاعتراضات التي أوردها الرجلان على كلام ابن القيم في إثبات صفة العلو لله تعالى
قال الكوثري : وقد ذكر غير واحد من أهل العلم منهم ابن فرح القرطبي في تذكرته رواية عن القاضي ابن العربي عن غير واحد من أصحاب إمام الحرمين عنه ما معناه : أن ذا حاجة حضر عنده وشكا من دين ركبه فأشار إليه بالمكث لعل الله يفرج عنه وفي أثناء ذلك حضر غني يسأله عن الحجة في تنزه الله سبحانه عن الجهة , فقال إمام الحرمين : الأدلة على هذه كثيرة جدا , منها نهيه صلى الله عليه وسلم عن تفضيله على يونس بن متّى عليه السلام . فصعب فهم وجه دلالة ذلك على الحضور , فسأله السائل عن وجه الدلالة , فقال إمام الحرمين : حتى تقضي حاجة هذا –مشيرا إلى صاحب الدين- فتولى قضاء دينه , ثم أجاب الإمام قائلا : إن هذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند سدرة المنتهى لم يكن بأقرب إلى الله من يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت في قعر البحر , فدل ذلك على أنه تعالى منزه عن الجهات , وإلا لما صح النهي عن التفضيل , فاستحسنه الحاضرون غاية الاستحسان .اهـ المراد (8)
طبعا أنا لا أدري كيف فهم هذا الفهم ولا أدري كيف استحسنه الحاضرون أصلا , ولا أدري لماذا يتقحم أحدهم الصعب والذلول حتى يحوز على قصب السبق في الاعتداء على النصوص الشرعية
هذا الحديث فسره العلماء بعدة تفسيرات فقالوا :
إنما قال صلى الله عليه و سلم ذلك تواضعا إن كان قاله بعد أن أعلم أنه أفضل الخلق .
وإن كان قاله قبل علمه بذلك فلا إشكال .
وقيل خص يونس بالذكر لما يخشى على من سمع قصته أن يقع في نفسه تنقيص له فبالغ في ذكر فضله لسد هذه الذريعة . (9)
وفي رواية للحديث : مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى . صحيح البخاري 3395
وفي رواية أخرى : لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ . صحيح البخاري 3412
فتفسيرها واضح من سياقها : أنه لا ينبغي لأي شخص أن يقول ذلك , ليس النبي صلى الله عليه وسلم .
والأحاديث الدالة على اصطفاء النبي صلى الله عليه وسلم على جميع الخلق وأنه سيد ولد آدم وأن الله اتخذه خليلا كلها تقوي التفسير بأن المراد بعيد كل البعد عما أجهد به الجويني عقله ثم أخرجه لذاك السائل المسكين وأضله به عن سواء السبيل .
ثم ما الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى ؟؟ .. ما الشيء الذي كان محتجبا بالأنوار فقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم : نور أنّى أراه" ؟؟ وما الشيء الذي كان يترادّ النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين موسى عليه السلام ؟؟
هو الله تعالى الذي يحاول الأشعرية ليَّ أعناق النصوص لتطاوع آراءهم الفائلة
ونقل السبكي عن الإمام مالك رحمه الله نقلا بلا زمام ولا خطام يوافق فيه تفسيره , وهو بلا مرية كذب عليه
قال عبد الله في السنة 5- حدثني أبي رحمه الله قال : حدثنا سريج بن النعمان ، أخبرني عبد الله بن نافع: الله عز وجل في السماء , وعلمه في كل مكان , لا يخلو منه شيء ، وتلا هذه الآية ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ) وعظم عليه الكلام في هذا واستشنعه
قال اللالكائي في شرح أصول اعتقاد اهل السنة : 682 - أخبرنا أحمد ، قال : أخبرنا عمر ، قال : أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر بن شاذان ، قال : ثنا أسامة بن أحمد التجيبي ، قال : ثنا الحارث بن مسكين ، قال : ثنا أشهب ، قال : وسئل مالك عن قوله عز وجل (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) أتنظر إلى الله عز وجل ؟ قال : نعم ، فقلت : إن أقواما يقولون تنظر ما عنده ، قال : بل تنظر إليه نظرا ، وقد قال موسى : ( رب أرني أنظر إليك ) فقال له : لن تراني , وقال : الله عز وجل : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) .اهـ
قال الكوثري : ينص شيخه (أي ابن تيمية) في كتابه المذكور على أن المراد بالفوقية الفوقية الحسية , فكأنه لم يتل في كتاب الله "يد الله فوق أيديهم" , "وفوق كل ذي علم عليم" , والمراد بالفوقية فوقية العزة والقهر والتنزه , والله فوق ذلك في حديث الترمذي بمعنى أنه يعلو عن مدارك البشر ما في سنن الترمذي أيضا من حديث (لو دليتم ) , قال : ابن جهبل : الفوقية ترد لمعنيين أحدهما : نسبة الجسم إلى جسم بأن يكون أحدهما أعلى والآخر أسفل بمعنى أن أسفل الأعلى من جانب رأس الأسفل , وهذا لا يقول به من لا يجسم , وثانيهما بمعنى المرتبة كما يقال الخليفة فوق السلطان والسلطان فوق الأمير , وكما يقال : جلس فلان فوق فلان , والعلم فوق العمل , والصياغة فوق البلاغة , قال تعالى "ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات" ولم يطلع أحدهم فوق أكتاف الآخر , وقال تعالى عن القبط "وإنا فوقهم قاهرون" , وما ركبت القبط أكتاف بني إسرائيل ولا ظهورهم .اهـ فظهر بذلك بطلان التمسك بكلمة فوق في الآيات والأحاديث في إثبات الجهة له تعالى الله عن مزاعم المجسمة .اهـ (10)
معاني الألفاظ في اللغة تفهم من سياقاتها , فقوله تعالى "وفوق كل ذي علم عليم لم يفهم أحد أن الفوقية هنا مكانية وإنما المراد أن فوق كل عالم عالم حتى ينتهي العلم إلى الله , وقوله "ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات" لا يفهم من سياقها إلا فوقية الدرجات لا الفوقية المكانية ,
ولكن مثل قوله تعالى "أءمنتم من في السماء" وقوله "الرحمن على العرش استوى" , وقوله "تعرج الملائكة والروح إليه" هذه السياقات لا يفهم منها العاقل إلا العلو المكاني
وأما حديث (لو دليتم) مع ضعفه فهو عليكم لا لكم
ولكن اقرأ بتأنٍّ حتى تفهم
قال شيخ الإسلام رحمه الله : و حديث الإدلاء الذي روي من حديث أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما قد رواه الترمذي وغيره من حديث الحسن البصري عن أبى هريرة وهو منقطع , فإن الحسن لم يسمع من أبي هريرة , ولكن يقويه حديث أبى ذر المرفوع فإن كان ثابتا فمعناه موافق لهذا فإن قوله لو أدلي أحدكم بحبل لهبط على الله . إنما هو تقدير مفروض , أي : لو وقع الإدلاء لوقع عليه , لكنه لا يمكن أن يدلي أحد على الله شيئا لأنه عال بالذات , وإذا أهبط شيء إلى جهة الأرض وقف في المركز ولم يصعد إلى الجهة الأخرى , لكن بتقدير فرض الإدلاء يكون ما ذكر من الجزاء
.... وكما أن ما يهبط إلى جوف الأرض يمتنع صعوده إلى تلك الناحية لأنها عالية فترد الهابط بعلوها , كما أن الجهة العليا من عندنا ترد ما يصعد إليها من الثقيل فلا يصعد الثقيل إلا برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من الهبوط , فكذلك ما يهب أعلى الأرض إلى أسفلها وهو المركز لا يصعد من هناك إلا برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من الهبوط إلى المركز , فإن قدر أن الدافع أقوى , كان صاعدا به إلى الفلك من تلك الناحية , وصعد به إلى الله , وإنما يسمى هبوطا باعتبار ما في أذهان المخاطبين أن ما يحاذي أرجلهم يكون هابطا , ويسمى هبوطا مع تسمية إهباطه إدلاء وهو إنما يكون إدلاء حقيقيا إلى المركز , ومن هناك إنما يكون مدا للحبل والدلو لا إدلاء له , لكن الجزاء والشرط مقدران لا محققان
فإنه قال : لو أدلى لهبط , أي لو فرض أن هناك إدلاء لفرض أن هناك هبوطا , وهو يكون إدلاء وهبوطا إذا قدر أن السموات تحت الأرض وهذا التقدير منتف ولكن فائدته بيان الإحاطة والعلو من كل جانب , وهذا المفروض ممتنع في حقنا لا نقدر عليه فلا يتصور أن يدلي ولا يتصور أن يهبط على الله شيء , لكن الله قادر على أن يخرق من هنا إلى هناك بحبل ولكن لا يكون في حقه إدلاء فلا يكون في حقه هبوطا عليه
كما لو خرق بحبل من القطب إلى القطب , أو من مشرق الشمس إلى مغربها , وقدرنا أن الحبل مر في وسط الأرض , فإن الله قادر على ذلك كله , ولا فرق بالنسبة إليه على هذا التقدير من أن يخرق من جانب اليمين منا إلى جانب اليسار , أو من جهة أمامنا إلى جهة خلفنا , أو من جهة رؤوسنا إلى جهة أرجلنا , إذا مر الحبل بالأرض , فعلى كل تقدير قد خرق بالحبل من جانب المحيط إلى جانبه الآخر مع خرق المركز , وبتقدير إحاطة قبضته بالسموات والأرض فالحبل الذي قدر أنه خرق به العالم وصل إليه ولا يسمى شيء من ذلك بالنسبة إليه إدلاء ولا هبوطا .اهـ (11)
نقل السبكي قول ابن القيم في دلائل : العلو : وسادسها وسابعها النزول والتنزيل .
فعلق الكوثري قائلا : قاتل الله الجهل , ما أفتكه ! , فمن الذي يجهل استمرار الثلث الأخير من الليل في البلاد باختلاف المطالع حتى يحمل النزول إلى السماء الدنيا على النزول الحسي , وقد حمل حماد بن زيد النزول في الحديث على معنى الإقبال ومن أهل العلم من حمل الحديث على أن الإسناد فيه مجازي من قبيل الإسناد إلى السبب الآمر ويؤيده حديث أبي هريرة في سنن النسائي وفيه (ثم يأمر مناديا يقول هل من داع فيستجاب له ) .اهـ (12)
يعني ابن جهبل أن الله لو نزل في الثلث الأخير نزولا حقيقيا لاستمر نازلا ولم يصعد لأن ثلث الأخير يختلف باختلاف الأقطار وهو مستمر على الأرض باستمرار استدارة الشمس والقمر
قلت :
أولا : الله سبحانه وتعالى "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"
ثانيا : هذا الظن السيء الذي ظنه الأشاعرة لِما وقع في قلوبهم من التشبيه , فهم قاسوا الله تعالى بخلقه , لأن المخلوق إذا نزل من مكان إلى مكان خلا منه المكان الأول , وأما نحن فنقول ينزل الرب من العرش ولا يخلو منه . فإذا لم تفهم هذا , فأقول :
ثالثا : أليس الله يسمع كلام عباده كلهم في الوقت نفسه , أليس يرزقهم كلهم في ساعة واحدة , وقد قيل لابن عباس: كيف يكلمهم يوم القيامة كلهم في ساعة واحدة ؟ , قال كما يرزقهم في ساعة واحدة .اهـ
وهذا كله مما يقر به المخالف , ولو سئل عن ذلك لقال : على ما يشاء قدير , فكذلك نحن نقول في حديث النزول أنه تعالى على كل شيء قدير . فيستطيع سبحانه وتعالى أن ينزل في ثلث كل قطر على حدة .
فليس مع القوم من الشبه إلا من جنس هذه الشبه التافهة التي لا يمكن أن يرد كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الناس بمثلها
ومن الاعترافات الأشعرية في الباب , ما قاله القرطبي في تفسيره : وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله. ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة. وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته. قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم- يعني في اللغة- والكيف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة.اهـ (13)
وعلق الكوثري على هذا بأنه: تساهل منه في العبارة , فإنه لم يرد لفظ الجهة في عبارة السلف ولا في كتاب الله ...إلخ ما قاله (14)
قلت : مراد القرطبي واضح بأنه عنى بلفظ (الجهة) = العلو , وهذه القضية تزخر بها كتب السلف ولله الحمد , ولكن الكوثري لا ينتبه لما يخرج منه
وقد تفنن السبكي والكوثري في سب وقدح بل وتكفير من أثبت صفة العلو لله تعالى
فهل تعلم أخي القارئ بأن متقدمي الأشاعرة كانوا يثبتونها !؟؟
قال أبو بكر الباقلاني : فإن قالوا : هل تقولون : إنه في كل مكان ؟ , قيل : معاذ الله بل هو مستو على عرشه كما خبر في كتابه فقال "الرحمن على العرش استوى" , وقال تعالى "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه" , وقال "أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض" , ولو كان في كل مكان لكان في جوف الإنسان وفمه وفي الحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها .. اهـ المراد (13)
قال البيهقي : باب القول في الاستواء , -ثم ذكر آيات في صفة العلو- , قال : إلى سائر ما ورد في هذا المعنى , وقال "أأمنتم من في السماء" وأراد من فوق السماء كما قال "ولأصلبنكم في جذوع النخل" يعني على جذوع النخل , وقال "فسيحوا في الأرض" يعني على الأرض , وكل ما علا فهو سماء والعرش أعلى السموات , فمعنى الآية والله أعلم : أأمنتم من على العرشو كما صرح به في سائر الآيات .اهـ (14)
وردوا على شبه هي من جنس شبه السبكي والكوثري , وكان المتقدمون ينسبون تلك الشبه للجهمية والمعتزلة ,
فما بال السبكي والكوثري الآن ينتحلان مذاهب الجهمية !؟
فهل تكفير السبكي والكوثري لمثبتي صفة العلو سيشمل الباقلاني والبيهقي ؟
هذا وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد
(1) الرد على الزنادقة والجهمية 300
(2) الإحياء (4/ 434) .
(3) السيف الصقيل 39
(4) أساس التقديس 4
(5) بيان تلبيس الجهمية 2/551
(6) بيان تلبيس الجهمية (2/447)
(7) سير أعلام النبلاء 14/20
(8) السيف الصقيل 40
(9) فتح الباري (6/452)
(10) السيف الصقيل 78
(11) مجموع الفتاوى 6/572
(12) السيف الصقيل 80
(13) تفسير الآية رقم 54 من سورة الأعراف
(14) التمهيد 260 تحقيق رتشارد يوسف مكارثي اليسوعي
(15) السيف الصقيل 88
(16) الاعتقاد والهادي إلى سبيل الرشاد 116
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنهيته ولله الحمد يوم الأحد
17 شعبان 1438هـ
14/8/2017م
بعد صلاة الظهر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق