الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه
أما بعد
فإن من المسائل التي كثر بها الأخذ والرد في زماننا مسألة كفر الأشاعرة ..
وأنا كأي طالب علم تهمه عقيدته , ويهمه مذهبه السلفي قرأت في بعض هذه الردود ونظرت في أدلة كل فريق , ولكن قبل هذا قرأت في كتب الاعتقاد أن القائل بخلق القرآن كافر كفراً أكبر مخرج من الملة , وأن إجماع السلف على ذلك.
ثم لما نظرت في بعض عقائد الأشاعرة وجدتهم يقولون بخلق القرآن تصريحاً وتمويهاً بعض الأحيان ..
وأيضا في مسألة علو الله على خلقه أجمع السلف على كفر منكر العلو كفراً أكبر .
والأشاعرة يصرحون بنفي علو الله على خلقه ..!
فهجم على قلبي عند أول وهلة : بما أن السلف أجمعوا على كفر منكر العلو والقائل بخلق القرآن (أي منكر صفة الكلام) والأشاعرة نافون للعلو وصفة الكلام، إذاً الأشاعرة كفار ..
إذاً : كيف أنفي عنهم الكفر في هذا المأزق ؟؟
وجدت أن المدافعين عن الأشاعرة ، النافون عنهم وصف الكفر يستدلون بكلام الإمام ابن تيمية رحمه الله : أنا لو قلت بقولكم لكفرت .اهـ
والحقيقة أنني أستغرب من هذا الاستدلال إذ أنه يصلح دليلا للقائلين بكفرهم (خاصة في مذهب التفريق بين الإطلاق والتعيين) فالشيخ يقرر أن مذهبهم كفري ، ولكنهم لا يكفرون لجهلهم .. إذاً من يرتفع عنه الجهل منهم فهو كافر .
هذا ما يتبادر لذهني عند قراءة العبارة ..!
وأمر آخر .. وهو أنني أثناء قراءتي لرسائل الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله وقفت على كلام لابن تيمية رحمه الله يطلق على بعضهم وصف الكفر , ووجدت النقل في كتاب التسعينية 1/119
قال رحمه الله : فأغلظت لهم في الجواب، وقلت لهم بصوت رفيع (2): يا مبدلين (3) يا مرتدين (4) عن الشريعة يا زنادقة وكلامًا (1) آخر كثيرًا، ثم قمت وطلبت فتح الباب والعود إلى مكاني.اهـ
فكأن الشيخ رحمه الله رأى أنه دام أن الحجة قامت عليهم في الخصومات الي وقعت بينه وبينهم إذاً هم كفار ((والله أعلم هذا الذي ظهر لي , وإلا فما معنى تكفيرهم هنا؟!))
من هذا النقل : ابن تيمية كفر بعض الأشاعرة إذاً هذه نقطة يجب على الباحث أن لا يتجاوزها دون نقاش , ولا أن يتعامى عنها ..
وأثناء قراءتي لمجموع الدرر السنية وقفت على تصريح ناري في هذا السياق من الإمام المجدد رحمه الله يفهم منه فوق كون الأشاعرة كفرقة هم عند ابن تيمية كفار ,وأما التعيين عنده فعلى من قامت عليه الحجة.
قال الشيخ رحمه الله : وأما عبارة الشيخ التي لبسوا بها عليك، فهي أغلظ من هذا كله، ولو نقول بها لكَفَّرنا كثيراً من المشاهير بأعيانهم؛ فإنه صرح فيها بأن المُعيَن لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة.
فإن كان المُعين لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه: أن يفهم كلام الله ورسوله، مثل فهم أبي بكر رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله، وخلا من شيء يُعذر به، فهو كافر، كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن، مع قول الله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أكنة أن يفقهوه} الأنعام 25، وقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ} 1.
وإذا كان كلام الشيخ، ليس في الشرك والردة، بل في المسائل الجزئيات، سواء كانت من الأصول أو الفروع، ومعلوم أنهم يذكرون في كتبهم في مسائل الصفات، أو مسألة القرآن، أو مسألة الاستواء، أو غير ذلك، مذهب السلف، ويذكرون أنه الذي أمر الله به ورسوله، والذي درج عليه هو وأصحابه، ثم يذكرون مذهب الأشعري أو غيره، ويرجحونه، ويسبون من خالفه. اهـ الدرر السنية 10/69
في آخر النقل صرح أن كلامه عن الأشاعرة , وحقا في كتب كثير منهم يصرحون بمذهب السلف ثم يخالفونه ..! بحجج قبيحة جدا كقولهم الأنبياء جاؤوا بالتخييل , أو قول أحدهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقر الصحابة على التجسيم !! والعياذ بالله
وقول المجدد عن كلام شيخ الإسلام : ولو نقول بها لكفرنا ..إلخ
هل معناه أن المجدد لا يأخذ بمذهب شيخ الإسلام في المسألة .. يظهر لي ذلك والله أعلم.
ثم ذكر الشيخ كلام ابن تيمية الذي يُستدل به في هذا المقام , والذي يستعمله كثيراً نفو التكفير عن الأشعرية .
قال : وقال أيضا في أثناء كلامه على المتكلمين، ومن شاكلهم، لما ذكر عن أئمتهم شيئا من أنواع الردة، والكفر، قال رحمه الله: وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال إنه فيها مخطيء ضال، لم تقم عليه الحجة، التي يكفر صاحبها؛ لكن ذلك يقع في طوائف منهم، في الأمور الظاهرة، التي يعلم المشركون واليهود والنصارى، أن محمداً صلى الله عليه وسلم بُعِث بها، وكفر من خالفها، مثل: أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه، من النبيين والملائكة وغيرهم؛ فإن هذا أظهر شرائع الإسلام.
ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع، فكانوا مرتدين؛ وكثير منهم، تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة، وتارة يعود إليه مع مرض في قلبه ونفاق، والحكاية عنهم في ذلك مشهورة. وقد ذكر ابن قتيبة من ذلك طرفاً في أول مختلف الحديث؛ وأبلغ من ذلك: أن منهم من صنف في الردة، كما صنف الرازي في عبادة الكواكب، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين. هذا لفظه بحروفه.
فانظر كلامه في التفرقة بين المقالات الخفية، وبين ما نحن فيه، في كفر المعين، وتأمل تكفيره رؤوسهم، فلاناً وفلاناً بأعيانهم، وردتهم ردة صريحة، وتأمل تصريحه بحكاية الإجماع على ردة الفخر الرازي عن الإسلام، مع كونه عند علمائكم من الأئمة الأربعة ..! .اهـ الدرر السنية 10/71
ذكرت أنني أشك بأن المجدد يذهب مذهب ابن تيمية في الحكم على الأشاعرة بناء على كلمته التي قالها .
وأيضاً كتب الأستاذ مشاري الشثري وفقه الله مقالا سماه : (معتمد مذهب الحنابلة في الحكم على الأشاعرة)
https://drive.google.com/file/d/1ZUZz_huJOE590bfM_-IJHLsciWiSuSmI/view
ذكر فيه نقلاً قوياً جداً في المسألة عن المجد ابن تيمية يخالف فيه مذهب حفيده ولكني سأذكر النقل ضمن كلام الشيخ أبا بطين رحمه الله لأن شرحه وتعليقه خير من شرحي وتعليقي .
قال رحمه الله : فكلامه ظاهر: في التفرقة بين الأمور المكفرة الخفية، كالجهل ببعض الصفات ونحوها، فلا يكفر بها الجاهل، كقوله للجهمية: أنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال، وقال فيمن ارتكب بعض أنواع الشرك جهلا، لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: لم يمكن تكفيرهم، لأنهم جهال، كما قال في المنكر لبعض الصفات جهلاً ؛ بل قال: لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فلم ينتهوا، أو إن كانوا جهالاً ، مع أن قول الشيخ رحمه الله، في عدم تكفير الجهمية ونحوهم، خلاف المشهور في المذهب؛ فإن الصحيح من المذهب: تكفير المجتهد الداعي إلى القول بخلق القرآن، ونفي الرؤية ونحو ذلك.
قال المجد رحمه الله: الصحيح: أن كل بدعة كفرنا فيها الداعية، فإنا نفسق المقلد فيها، كمن يقول بخلق القرآن، أو أن علم الله سبحانه مخلوق، أو أسماءه مخلوقة، أو أنه لا يُرى في الآخرة، أو يسُب الصحابة، أو أن الإيمان مجرد الإعتقاد، ونحو ذلك؛ فمن كان عالماً في شيءٍ من هذه البدع، يدعو إليه، ويناظر عليه، فهو محكوم بكفره، نص أحمد على ذلك في مواضع، انتهى.
فتبين: أن الصحيح من المذهب تكفيره، ولم يعذرهم بالجهل. اهـ[ الدرر السنية 10/356]
تأمل قول الشيخ عبدالله أبا بطين : فتبين: أن الصحيح من المذهب تكفيره، ولم يعذرهم بالجهل.اهـ
وهذا المذهب الذي أظن الإمام المجدد رحمه الله يتبناه والله أعلم .
وحقيقة: أنا خلال بحثي وقراءتي لم أجد الأئمة المتقدمين في مسألة خلق القرآن يفرقون بين الجاهل والعالم كما فرقوا في مسألة اللفظية والواقفة ..!
والله الموفق للصواب.
يظهر أن المدافعين عن الأشعرية المحتجين بكلام ابن تيمية في مأزق شديد لو طبقوا كلام ابن تيمية وامتثلوا لإلزام المجدد رحمه الله تعالى فيه , ولو التزموه الله أعلم لصارت عندنا قائمة أسماء طويلة ..
وأيضا عامتكم يجيزون التمذهب بأي مذهب من المذاهب الأربعة , وبعضهم ربما يوجب ذلك ويشدد على من خرج منها , أو اتبع ما نسميه فقه الدليل ..
إذاً من اتبع معتمد مذهب الحنابلة في هذه المسألة سيكون الإنكار عليه فيها أمر عجيب !! خاصة أن دعائم مذهبهم آثار سلفية صريحة ..
وأخيراً ليت من يقرأ هذه الكلمات أن ينظر إليها نظرة شمولية لا أن يُبَتِّر أفكارها ثم يريد الرد عليها .
هذا وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد.
الثلاثاء: ١٨ ربيع ثاني ١٤٤٣ ھ
٢٣ نوفمبر ٢٠٢١ م