الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه
أما بعد:
فهذا مقال أبتدئ به مستعيناً بالله سلسلةً أناقش فيها العديد من العقائد الأشعرية وأبين كوامنها ؛
وسيكون كتاب (السيف الصقيل) لعلي بن عبدالكافي السبكي الأشعري هو الضحية التي سأفرغ عليها ما في كنانتي (١) إن شاء الله تعالى
أولاً : نبذة يسيرة عن الكتاب الذي يسميه صاحبه ( السيف الصقيل ) :
ألّفَّ السبكي هذا الكتاب ردّاً على نونية ابن القيم رحمه الله تعالى مستلّاً لبعض أبياتها ومعلقاً عليها .. وعامة تعليقاته تقريباً مجرد ندبٍ وتسخطٍ لا غير .
والذي خدم هذا الكتاب وأخرجه محارباً لله ورسوله هو محمد بن زاهد الكوثري , ووضع في الكتاب حاشية موغلة في الإثم والعدوان سمّاها (تبديد الظلام المخيم على نونية ابن القيم) وصار الكتاب مع الحاشية والملحق التافه في مئة وستين صفحة .
ثانيا ً :
ربي يسر وأعن برحمتك يا كريم
قال علي السبكي ص31 : ثم قال –أي ابن القيم- : (( والظلم عندهم المحال لذاته ))
قال السبكي : نعم إن الله لا يظلم مثقال ذرة "وما ربك بظلام للعبيد" وكيف يتصور الظلم والكل ملكه , ثم قال –ابن القيم-:((أنى ينزه عنه ويكون مدحاً ذلك التنزيه)) ,
قال السبكي : قلنا يا جاهل اجترأت على الله وعلى عباده فلم تفرق بين الفعل والخلق , وظننت بجهلك أنهما سواء , وأنه لا يعاقب على فعله .اهـ
قلت : في هذه الفقرة يقرر السبكي أن الله سبحانه وتعالى غير قادر على الظلم أي أن الظلم ممتنع ((لذاته)) عن الله.
بينما أهل الحق يعتقدون أن الله تعالى قادر على الظلم ولكنه سبحانه لكمال عدله حرّم الظلم ومنع نفسه منه , وهذا هو صريح ظواهر القرآن .
قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم : وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: هُوَ أَشْرَفُ حَدِيثٍ لِأَهْلِ الشَّامِ. فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ: " «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي» " يَعْنِي: أَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنَ الظُّلْمِ لِعِبَادِهِ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ، وَقَالَ: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} ، وَقَالَ {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} وَقَالَ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ، وَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} ، وَقَالَ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ، وَقَالَ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} ، وَالْهَضْمُ: أَنْ يُنْقَصَ مِنْ جَزَاءِ حَسَنَاتِهِ، وَالظُّلْمُ: أَنْ يُعَاقَبَ بِذُنُوبِ غَيْرِهِ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَهُوَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى الظُّلْمِ، وَلَكِنْ لَا يَفْعَلُهُ فَضْلًا مِنْهُ وَجُودًا وَكَرَمًا وَإِحْسَانًا إِلَى عِبَادِهِ. وَقَدْ فَسَّرَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الظُّلْمَ بِأَنَّهُ وَضْعُ الْأَشْيَاءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا. وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ - وَقَدْ نُقِلَ نَحْوُهُ عَنْ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِ - فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ أنَ الظُّلْمَ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ، وَغَيْرُهُ (٢) مُتَصَوَّرٌ فِي حَقِّهِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ فَهُوَ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِهِ، وَبِنَحْوِ ذَلِكَ أَجَابَ أَبُو الْأُسُودِ الدُّؤَلِيُّ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ حِينَ سَأَلَهُ عَنِ الْقَدَرِ. وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سِنَانٍ سَعِيدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ خَالِدٍ الْحِمْصِيِّ، «عَنِ ابْنِ الدَّيْلِمِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ، لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّهُ أَتَى ابْنَ مَسْعُودٍ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَى زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَحَدَّثَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ» . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ، وَوَهْبُ بْنُ خَالِدٍ لَيْسَ بِذَلِكَ الْمَشْهُورِ بِالْعِلْمِ. وَقَدْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ تَعْذِيبَهُمْ، لَقَدَّرَ لَهُمْ مَا يُعَذِّبُهُمْ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ غَيْرَ ظَالِمٍ لَهُمْ حِينَئِذٍ.
وَكَوْنُهُ خَلَقَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَفِيهَا الظُّلْمُ لَا يَقْتَضِي وَصْفَهُ بِالظُّلْمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كَمَا أَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِسَائِرِ الْقَبَائِحِ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْعِبَادُ، وَهِيَ خَلْقُهُ وَتَقْدِيرُهُ، فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ إِلَّا بِأَفْعَالِهِ لَا يُوصَفُ بِأَفْعَالِ عِبَادِهِ، فَإِنَّ أَفْعَالَ عِبَادِهِ مَخْلُوقَاتُهُ وَمَفْعُولَاتُهُ، وَهُوَ لَا يُوصَفُ بِشَيْءٍ مِنْهَا، إِنَّمَا يُوصَفُ بِمَا قَامَ بِهِ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .اهـ
وقال شيخ الإسلام رحمه الله كما في مجموع الفتاوى (18/144) : وكذلك قوله تعالى "وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد" يبين أن هذا العقاب لم يكن ظلما ؛ لاستحقاقهم ذلك وأن الله لا يريد الظلم , والأمر الذي لا يمكن القدرة عليه لا يصلح أن يمدح الممدوح بعدم إرادته وإنما يكون المدح بترك الأفعال إذا كان الممدوح قادرا عليها , فعلم أن الله قادر على ما نزه نفسه عنه من الظلم وأنه لا يفعله وبذلك يصح قوله "إني حرمت الظلم على نفسي" وأن التحريم هو المنع , وهذا لا يجوز أن يكون فيما هو ممتنع لذاته فلا يصلح أن يقال : حرمت على نفسي أو منعت نفسي من خلق مثلي أو جعل المخلوقات خالقة ونحو ذلك من المحالات ؛ وأكثر ما يقال في تأويل ذلك ما يكون معناه إني أخبرت عن نفسي بأن ما لا يكون مقدورا لا يكون مني , وهذا المعنى مما يتيقن المؤمن أنه ليس مراد الرب وأنه يجب تنزيه الله ورسوله عن إرادة مثل هذا المعنى الذي لا يليق الخطاب بمثله إذ هو مع كونه شبه التكرير وإيضاح الواضح ليس فيه مدح ولا ثناء ولا ما يستفيده المستمع , فعلم أن الذي حرمه على نفسه هو أمر مقدور عليه لكنه لا يفعله لأنه حرمه على نفسه وهو سبحانه منزه عن فعله مقدس عنه .اهـ
وهذا الكلام المتين من ابن تيمية رحمه الله كاف شاف في سحق هذه المقالة وبيان تفاهة العقول التي نسجتها وسخافة القطعان التي اتبعتها
وملخصه أنه لولا أن الله تعالى قادر على الظلم لَما مدح نفسه بتركه !!
فالمسألة ولله الحمد على قدر عال من الوضوح
ولكن
عَلَيَّ نَحْتُ الْقَوَافِي مِنْ مَقَاطِعِهَا ... وَمَا عَلَيَّ لَهُمْ أَنْ تَفْهَمَ الْبَقَرُ
وفي المقال القادم سأبيّن تناقضهم في زعمهم منع الظلم عن الله تعالى , وتعلق هذه المسألة بصفة الحكمة التي لم يثبتوها لله حقيقة .
هذا وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) الكنانة : وعاء من جلد أو نحوه يستخدم لوضع السهام فيه .
(٢) كأنها : وغير .
اتممته في :
ضُحى يوم الأحد ٢٥ ذو القعدة ١٤٣٧ هـ
2016/8/28
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق