الاثنين، 17 أبريل 2017

الحلقة العاشرة (إرث التعطيل)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسو الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه

أما بعد 

فقد ناقشنا في الحلقة السابقة الأشاعرة في الصفات وبيننا اننا نستطيع بطريقتهم التي سلكوها في إثباتهم للصفات السبع أن نثبت صفاتا أخرى هم ينفونها وليس لهم في نفيهم لها دليلا سوى دعوى الهروب من التشبيه !!

وفي هذه الحلقة سنتكلم عن نفي الأشاعرة للصفات الفعلية (الاختيارية) وسببه والرد عليه إن شاء الله تعالى 

رب يسر وأعن برحمتك يا كريم

قال الكوثري في حاشيته على السيف الصقيل : اتفقت فرق المسلمين سوى الكرامية وصنوف المجسمة على أن الله سبحانه منزه عن أن تقوم به الحوادث وأن تحل به الحوادث ...اهـ (1) 

وقال : ونسجل هنا على الناظم اعتقاده قيام الحوادث بذات الله سبحانه وتعالى , واعتقاده أن هذه الحوادث لا أول لها .اهـ (2)

أقول : نفي قيام الحوادث الذي تعتقده الأشاعرة معناه : نفي قيام الأفعال الاختيارية عن الله تعالى كالغضب والرضى والضحك والنزول والصعود 

وانتحالهم هذه العقيدة الفاسدة مبني على قاعدة (الاستدلال على حدوث العالم بحلول الحوادث) ومعناها : أن كل شيء قامت به الحوادث (الأفعال) فهو مخلوق 
وبما أن الكون تحل به الحوادث إذا الكون مخلوق
وبما أن الحوادث لا تحل إلا بمخلوق إذا الله لا تحل به (3)

هكذا اخترعت المقدمات ثم قُفِزَ منها إلى النتائج دون وجود أدلة !!

هذه العقيدة الفائلة ورثوها من الكلابية وورثها ابن كلاب من الجهم بن صفوان وكان سبب اختراع الجهم لها هو قلَّت علمه وبالتالي عدم سلوكه للطرق الشرعية بالاستدلال أثناء مناظرته للسمنية 

قال الإمام أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله تعالى : قال الإمام أحمد رحمه الله وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث فضلوا وأضلوا بكلامهم بشرا كثيرا 
 فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان من أهل ترمذ وكان صاحب خصومات وكلام وكان أكثر كلامه في الله تعالى فلقي أناسا من المشركين يقال لهم السمنية فعرفوا الجهم فقالوا له : نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا , وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك , فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له : ألست تزعم أن لك إلها ؟ , قال الجهم : نعم , فقالوا له : فهل رأيت إلهك ؟ , قال : لا , قالوا : فهل سمعت كلامه ؟ , قال : لا , قالوا : فشممت له رائحة ؟ , قال : لا , قالوا : فوجدت له حسا ؟ , قال : لا , قالوا : فوجدت له مجسا ؟ , قال : لا , قالوا : فما يدريك أنه إله ؟ , قال فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوما , ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح الله من ذات الله فإذا أراد أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما يشاء وينهى عما يشاء وهو روح غائبة عن الأبصار .
 فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسمنىي : ألست تزعم أن فيك روحا ؟ , قال : نعم , فقال هل رأيت روحك ؟قال : لاقال : فسمعت كلامه ؟ , قال : لا , قال : فوجدت له حسا أو مجسا ؟ , قال : لا , قال : فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان. ووجد ثلاث آيات من المتشابه قوله ( ليس كمثله شيء) الشورى (وهو الله في السموات والأرضالأنعام (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) الأنعام فبنى أصل كلامه على هذه الآيات وتأول القرآن على غير تأويله , وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافرا وكان من المشبهة فأضل بكلامه بشرا كثيرا .اهـ (4)

وفي صريح القرآن آي كثير يرد عليهم قولهم , ويدخل في ذلك: عامة ما أخبر الله به من أفعاله، لا سيما المرتبة، كقوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} ، وقوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} ، وقوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} ، وقوله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} ، وقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ، وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً، {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً} ، وقوله: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً} ، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ، وقوله: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} (5)

وكذلك كل حديث جاء على هذا النسق من ترتيب الأفعال , كقوله صلى الله عليه وسلم : يضحك ربنا .

وقوله : عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غِيَرِه .

قال شيخ الإسلام رحمه الله : وأصله في ذلك مسألة الصفات الاختيارية ونحوها من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته تعالى : هل تقوم بذاته أم لا ؟ فكان السلف والأئمة يثبتون ما يقوم بذاته من الصفات والأفعال مطلقا والجهمية من المعتزلة وغيرهم ينكرون ذلك مطلقا فوافق ابن كلاب السلف والأئمة في إثبات الصفات , ووافق الجهمية في نفي قيام الأفعال به تعالى وما يتعلق بمشيئته وقدرته .
 ولهذا وغيره تكلم الناس فيمن اتبعه كالقلانسي والأشعري ونحوهما بأن في أقوالهم بقايا من الاعتزال , وهذه البقايا أصلها هو الاستدلال على حدوث العالم بطريقة الحركات فإن هذا الأصل هو الذي أوقع المعتزلة في نفي الصفات والأفعال .اهـ (6) 

قال الخلال في السنة : 1887- وأخبرني عبد الله في موضع آخر ؛ قال : قلت لأبي : إن لويناً محمد بن سليمان الأسدي يقول : أول ما خلق الله والله عز وجل لم يزل متكلماً قبل أن يخلق الخلق فأعجبه هذا واستحسنه .

قلت : يعني أن الله لم يزل متكلما (فاعلا لأن الكلام فعل)

وقال الدارمي رحمه الله : لِأَنَّ الْحَيَّ الْقَيُّومَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَتَحَرَّكُ إِذَا شَاءَ، ويهبط ويرتفع إِذا شَاءَ ، ونقبض وَيَبْسُطُ وَيَقُومُ وَيَجْلِسُ إِذَا شَاءَ؛ لِأَنَّ أَمَارَةُ مَا بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ التَّحَرُّكَ.
كُلُّ حَيٍّ مُتَحَرِّكٌ لَا مَحَالَةَ. وَكُلُّ مَيِّتٍ غَيْرُ مُتَحَرِّكٍ لَا مَحَالَةَ .اهـ (7) 


وأما ادعاء الكوثري اتفاق فرق المسلمين على هذه العقيد الإلحادية فلا يزيد من صحة كلامه شيئا إذ أنه لم يتفق إلا مع الجهمية وفروعها الذي هو ينتسب إلى احدها

قال ابن تيمية رحمه الله واصفا حال هذا الاتفاق بينهم :  ... طوائف أهل البدع من أهل الكلام وغيرهم ليس فيهم من يوافق الرسول في أصول دينه لا فيما اشتركوا فيه ولا فيما انفرد به بعضهم. فإنهم وإن اشتركوا في مقالات فليس إجماعهم حجة، ولا هم معصومون من الاجتماع على خطأ.
وقد زعم طائفة أنّ إجماع المتكلمين في المسائل الكلامية كإجماع الفقهاء. وهذا غلط، بل السلف قد استفاض عنهم ذم المتكلمين، وذمّ أهل الكلام مطلقاً اشتراك أهل البدع في دليل الأعراض .اهـ (8)

وقال : وأصل كلامهم العقلي باطل، والإجماع الذي يظنونه إنما هو إجماعهم، وإجماع نظرائهم من أهل الكلام، ليس هو إجماع أمة محمد، ولا علمائها.
والله تعالى إنّما جعل العصمة للمؤمنين من أمة محمد؛ فهم الذين لا يجتمعون على ضلالة ولا خطأ؛ كما ذكر على ذلك الدلائل الكثيرة . وكلّ ما اجتمعوا عليه فهو مأثور عن الرسول ؛ فإنّ الرسول بيَّن الدين كلّه، وهم معصومون أن يُخطئوا كلّهم، ويضلّوا عمّا جاء به محمد ... فإجماعهم هو على علم موروث عن الرسول، جاء من عند الله، وذلك لا يكون إلا حقّاً.
وأمّا من كان إجماعهم على ما ابتدعه رأس من رؤوسهم4؛ فيجوز أن يكون إجماعهم خطأ؛ إذ ليسوا هم المؤمنين، ولا أمة محمد، وإنما هم فرقة منهم. .اهـ 

وبعد أن تبين فساد هذا الباعث الفكري عقليا ونقليا يمكننا أن نتكلم في الحلقات القادمة تفصيلا عن الصفات التي نفاها السبكي والكوثري في السيف وحاشيته  إن شاء الله تعالى

هذا وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السيف الصقيل 23
المصدر السابق 65 وانظر ص35 كلام السبكي
انظر النبوات (1/560)
الرد على الزنادقة والجهمية (
الدرر السنية (3/191)
درء تعارض العقل والنقل (1/283)
نقض عثمان بن سعيد
النبوات (1/559)
النبوات (1/565)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أتممته ولله الحمد في 19 رجب 1438هـ
16  أبريل 2017م قبيل صلاة المغرب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق